فصل: بَابُ إجَارَةِ الدُّورِ وَالْبُيُوتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ إجَارَةِ الدُّورِ وَالْبُيُوتِ:

(قَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ دَارًا سَنَةً بِكَذَا وَلَمْ يُسَمِّ الَّذِي يُرِيدُهَا لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ فَإِنَّمَا يُسْتَأْجَرُ الدَّارُ لِلسُّكْنَى وَيُبْنَى لِذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهَا تُسَمَّى مَسْكَنًا وَالْمَعْلُومُ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ وَلَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا وَيُسْكِنَهَا مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى لَا تَتَفَاوَتُ فِيهَا النَّاسُ وَلِأَنَّ سُكْنَاهُ لَا تَكُونُ إلَّا بِعِيَالِهِ وَأَوْلَادِهِ وَمَنْ يَعُولُهُمْ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ وَكَثْرَةُ الْمَسَاكِنِ فِي الدَّارِ لَا تَضُرُّ بِهَا بَلْ تَزِيدُ فِي عِمَارَتِهَا؛ لِأَنَّ خَرَابَ الْمَسْكَنِ بِأَنْ لَا يَسْكُنَهُ أَحَدٌ وَلَهُ أَنْ يَضَعَ فِيهَا مَا بَدَا لَهُ مِنْ الثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَالْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ وَيَعْمَلُ فِيهَا مَا بَدَا لَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ يَعْنِي الْوُضُوءَ وَغَسْلَ الثِّيَابِ وَكَسْرَ الْحَطَبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهُ لَا تَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ عَادَةً فَهِيَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى وَالْمُعْتَادُ مِنْهُ لَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ مَا خَلَا الرَّحَا أَنْ يُنْصَبَ فِيهِ أَوْ الْحَدَّادَ أَوْ الْقَصَّارَ فَإِنَّ هَذَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ إلَّا بِرِضَاءِ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْمُرَادُ رَحَا الْمَاءِ أَوْ رَحَا الثَّوْرِ، فَأَمَّا رَحَا الْيَدِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَنْصِبَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى فِي الْعَادَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يُفْسِدُ الْبِنَاءَ أَوْ يُوهِنُهُ فَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا لِلْمُسْتَأْجِرِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ وَمَا لَا يُفْسِدُ الْبِنَاءَ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى الَّتِي لَا تُوهِنُ الْبِنَاءَ بِمَنْزِلَةِ صِفَةِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ فَيَسْتَحِقُّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَمَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ بِمَنْزِلَةِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ أَوْ الْكِتْبَةِ أَوْ الْخَبْزِ فِي الْمَبِيعِ فَلَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا إلَّا بِالشَّرْطِ، وَعَلَى هَذَا كَسْرُ الْحَطَبِ بِالْقَدْرِ الْمُعْتَادِ مِنْهُ لَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ بِحَيْثُ يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ إلَّا بِرِضَاءِ صَاحِبِ الدَّارِ.
، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِلسُّكْنَى كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَلَهُ أَنْ يَرْبِطَ فِيهِ دَابَّتَهُ وَبَعِيرَهُ وَشَاتَهُ وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الدَّارِ مَوْضِعٌ مُعَدٌّ لِذَلِكَ وَهُوَ الْمَرْبِطُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَيْسَ لَهُ اتِّخَاذُ الْمَرْبِطِ فِي دِيَارِنَا؛ لِأَنَّ الْمَنَازِلَ بِبُخَارَى تَضِيقُ عَنْ سُكْنَى النَّاسِ فَكَيْف تَتَّسِعُ لِإِدْخَالِ الدَّوَابِّ فِيهَا وَإِنَّمَا هَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى عُرْفِهِمْ فِي الْكُوفَةِ لِمَا فِي الْمَنَازِلِ بِهَا مِنْ السَّعَةِ وَلَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا مَنْ أَحَبَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَأْتِيهِ ضَيْفٌ فَيَسْكُنُ مَعَهُ أَيَّامًا وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُسْكِنَهَا صَدِيقًا لَهُ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، فَإِنْ أَجَّرَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهَا بِهِ تَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلَحَ مِنْهَا بِنَاءً أَوْ زَادَ فِيهَا شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ حُكْمًا فَتَصِيرُ مَمْلُوكَةً لَهُ بِالْعَقْدِ مُسَلَّمَةً إلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَقَبَضَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ وَرَبِحَ فِيهِ فَالرِّبْحُ يَطِيبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ عَلَى مِلْكِ حَلَالٍ لَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَنَافِعُ لَمْ تَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ، وَإِنْ قَبَضَ الدَّارَ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ انْهَدَمَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَجْرُ فَهَذَا رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ»، ثُمَّ الْمَنَافِعُ فِي حُكْمِ الِاعْتِيَاضِ إنَّمَا تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ بِالتَّسْمِيَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يُؤَاجِرُ وَهُوَ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ فَإِنَّ الْمُعِيرَ يَقُولُ لَهُ مَلَّكْتُكَ مَنْفَعَتَهَا وَجَعَلْت لَك مَنْفَعَتَهَا وَلَوْ أَضَافَ الْإِعَارَةَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَثْبُتُ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُوصَى لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْجَبَهَا لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَعَ ذَلِكَ يُؤَاجِرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَابَلَتِهَا تَسْمِيَةٌ فَكَذَلِكَ هُنَا وَفِيمَا زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا تَسْمِيَةَ بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ فِي قَصْدِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْضِلَ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْعَيْنِ فَإِنَّ مَنْ يَمْلِكُ الْعَيْنَ بِالْهِبَةِ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ بِالْبَيْعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ زَادَ فِيهِ شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يَجْعَلُ الْفَضْلَ بِمُقَابَلَةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَلَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَجَّرَهُ بِجِنْسٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِالتَّقَوُّمِ وَالْعَقْدُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ، فَأَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ يَعُودُ إلَيْهِ مَا غَرِمَ فِيهِ بِعَيْنِهِ وَيَتَيَقَّنُ بِالْفَضْلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعِيرِ إذَا أَجَّرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْأَجْرِ.
وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا كُلَّ شَهْرٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ مَتَى أُضِيفَتْ إلَى مَا لَا يُعْلَمُ مُنْتَهَاهُ تَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى، فَإِنَّمَا لَزِمَ الْعَقْدُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَإِذَا تَمَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ فَإِنْ سَكَنَهَا مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ إلَى تَمَامِ الشَّهْرِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ التَّرَاضِيَ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِيَ يَتِمُّ إذَا سَكَنَهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ فِيهِ بِتَرَاضِيهِمَا كَمَا لَزِمَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ وَيَوْمِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَأْسُ الشَّهْرِ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُ: الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِينَ يُهِلُّ الْهِلَالُ حَتَّى إذَا مَضَى سَاعَةً فَالْعَقْدُ يَلْزَمُهُمَا وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، وَلَكِنَّهُ فِيهِ نَوْعُ حَرَجٍ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ قَالَ: الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّهْرِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَهَا كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا وَلَمْ يُسَمِّ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَهُوَ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ إلَّا أَنْ يَتَّصِلَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ بِالْعَقْدِ وَلَا يَتَّصِلُ إلَّا بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ ذِكْرَ الشَّهْرِ فَلَيْسَ بَعْضُ الشُّهُورِ لِتَعْيِينِهِ لِلْعَقْدِ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ وَجَهَالَةُ الْمُدَّةِ مُفْسِدَةٌ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ نَكَّرَ الشَّهْرَ وَالشَّهْرُ الْمُتَّصِلُ بِالْعَقْدِ مُعَيَّنٌ فَلَا يَتَعَيَّنُ بِاسْمِ النَّكِرَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا لَا يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَعْقُبُ نَذْرَهُ مَا لَمْ يُعَيِّنْهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْأَوْقَاتُ كُلُّهَا فِي حُكْمِ الْإِجَارَةِ سَوَاءٌ وَفِي مِثْلِهِ يَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الَّذِي يَعْقُبُ السَّبَبَ كَمَا فِي الْآجَالِ وَالْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُؤَخِّرٍ، وَالْمُؤَخِّرُ يَنْعَدِمُ فِيمَا تَسْتَوِي فِيهِ الْأَوْقَاتُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ الشُّرُوعُ فِيهِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى أَنَّ اللَّيْلَ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّوْمِ لَا يَكُونُ إلَّا بِعَزِيمَةٍ مِنْهُ وَرُبَّمَا لَا يَقْتَرِنُ ذَلِكَ بِالسَّبَبِ، فَأَمَّا دُخُولُ الْمَنْفَعَةِ فِي الْعَقْدِ لَا يَسْتَدْعِي مَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ سِوَى الْعَقْدِ فَمَا يَحْدُثُ بَعْدَ الْعَقْدِ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَقْدُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّهْرِ فَلَهُ شَهْرٌ بِالْهِلَالِ تَمَّ أَوْ نَقَصَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَلَهُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا لِأَنَّ الْأَهِلَّةَ أَصْلٌ فِي الشُّهُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ} وَالْأَيَّامُ تَدُلُّ عَلَى الْأَهِلَّةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْبَدَلِ إذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا شَهْرًا حِينَ أَهَلَّ الْهِلَالُ فَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ هُنَا مُمَكِّنٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا إلَى أَنْ يُهِلَّ الْهِلَالُ مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ وَإِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ بِالْأَهِلَّةِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.
، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً صَحَّ الِاسْتِئْجَارُ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَجُوزُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَجُوزُ أَبَدًا، وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِئْجَارِ لِلْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِسَنَةٍ كَمَا فِي الْأَرَاضِيِ وَنَحْوِهَا وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا حَاجَةَ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَقُولُ: الْعَادَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّ مَا يَسْكُنُ بِالْإِجَارَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً؛ فَإِنَّهُ يَتَّخِذُ الْمَسْكَنَ مِلْكًا إذَا كَانَ قَصْدُهُ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُ: الْمَنَافِعُ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَالْعَقْدُ عَلَى الْعَيْنِ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ التَّوْقِيتِ، فَكَذَلِكَ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ إعْلَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَإِنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَتْ الْمُدَّةُ لِلْمَنْفَعَةِ، فَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فِيمَا هُوَ مُقَدَّرٌ فَكَمَا لَا يَصِيرُ الْمِقْدَارُ هُنَا مَعْلُومًا إلَّا بِذِكْرِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لَا يَصِيرُ الْمِقْدَارُ هُنَا مَعْلُومًا إلَّا بِذَكَرِ الْمُدَّةِ، وَبَعْدَ إعْلَامِ الْمُدَّةِ الْعَقْدُ جَائِزٌ قَلَّ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَوْ كَثُرَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ جَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ قَوْله تَعَالَى {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْت عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} وَلِأَنَّ كُلَّ مُدَّةٍ تَصْلُحُ أَجَلًا لِلْبَيْعِ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ مَشْرُوطَةً فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَالسَّنَةِ وَمَا دُونَهَا وَالْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ الْإِعْلَامُ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ.
فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا سَنَةً مُسْتَقْبَلَةً وَذَلِكَ حِينَ يَهِلُّ الْهِلَالُ تُعْتَبَرُ سَنَةً بِالْأَهِلَّةِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ يُعْتَبَرُ سَنَةً بِالْأَيَّامِ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْتَبَرُ شَهْرًا بِالْأَيَّامِ وَإِحْدَى عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْأَهِلَّةَ أَصْلٌ وَالْأَيَّامَ بَدَلٌ فَفِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ تُقَدَّرُ الْأَهِلَّةُ وَفِي إحْدَى عَشَرَ شَهْرًا اعْتِبَارُ مَا هُوَ أَصْلٌ مُمْكِنٌ فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى الْبَدَلِ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ يُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْكُلِّ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتِمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ لَا يَدْخُلُ الشَّهْرُ الثَّانِي فَإِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فِي بَعْضٍ فَتَمَامُهُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ أَيْضًا وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الشَّهْرُ الثَّانِي فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ بِالْأَيَّامِ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي بَابِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا تُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَإِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ يَتَجَدَّدُ الْعَقْدُ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ كَأَنَّهُمَا جَدَّدَا الْعَقْدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ أَحَدَ عَشَر شَهْرًا بِالْهِلَالِ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَتُغَيَّرُ كُلُّهَا بِالْأَيَّامِ، ثُمَّ قَالَ إذَا اسْتَأْجَرَهَا سَنَةً أَوَّلُهَا هَذَا الْيَوْمُ وَهُوَ رَابِعُ عَشَرَةٍ مَضَيْنَ مِنْ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يَسْكُنُهَا بَقِيَّةَ هَذَا الشَّهْرِ وَإِحْدَى عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ الشَّهْرِ الْبَاقِي وَهَذَا غَلَطٌ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ اسْتَأْجَرَهَا لِأَرْبَعَ عَشَرَةَ بَقِينَ مِنْ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَاضِي مِنْ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَ عَشَرَةَ فَقَدْ سَكَنَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ فَلَا يَسْكُنُهَا فِي آخِرِ الْمُدَّةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِتَمَامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ قَالَ يَسْكُنُهَا سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ لِأَرْبَعَ عَشَرَةَ بَقِينَ مِنْ الشَّهْرِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بَيْتًا فِي عُلُوِّ دَارٍ وَمَنْزِلًا عَلَى ظُلَّةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَسْكَنٌ مُعَدٌّ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا عَلَى أَنْ يُقْعِدَ فِيهِ قَصَّارًا فَأَرَادَ أَنْ يُقْعِدَ فِيهِ حَدَّادًا فَلَهُ ذَلِكَ إنْ كَانَتْ مَضَرَّتُهُمَا وَاحِدَةً أَوْ كَانَتْ مَضَرَّةُ الْحَدَّادِ أَقَلَّ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مَضَرَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الرِّحَالَانِ التَّقْيِيدُ إذَا كَانَ مُفِيدًا يُعْتَبَرُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُفِيدٍ لَا يُعْتَبَرُ، وَالْفَائِدَةُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الدَّارِ بِأَنَّ مَا لَا يُوهِنُ بِنَاءَهُ وَلَا يُفْسِدُهُ فَلَا تَكُونُ مَضَرَّتُهُ مِثْلَ الْمَشْرُوطِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَالْمَنْفَعَةُ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجَرِ وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مَضَرَّةً فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُلْحِقَ بِهِ ضَرَرًا لَمْ يَرْضَ بِهِ صَاحِبُ الدَّارِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَالْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ وَالْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ التَّاجِرُ وَالْمُكَاتَبُ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ دَارًا سَنَةً بِالْكُوفَةِ بِكَذَا دِرْهَمًا مِنْ مُسْلِمٍ فَإِنْ اتَّخَذَ فِيهَا مُصَلًّى لِنَفْسِهِ دُونَ الْجَمَاعَةِ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ سُكْنَاهَا وَهَذَا مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهَا مُصَلَّى لِلْعَامَّةِ وَيَضْرِبَ فِيهَا بِالنَّاقُوسِ فَلِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الدَّارَ وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَمْنَعُهُ رَبُّ الدَّارِ وَهَذَا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ» وَالْمُرَادُ نَفْيُ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْخِصَاءِ تَأْوِيلَانِ.
(أَحَدُهُمَا) خِصَاءُ بَنِي آدَمَ فَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ صُحْبَةِ النِّسَاءِ عَلَى قَصْدِ التَّبَتُّلِ وَالتَّرَهُّبِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ السُّكْنَى فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ بَيْعُ الدُّورِ وَإِجَارَتُهَا مِنْهُمْ لِلسُّكْنَى إلَّا أَنْ يَكْثُرُوا عَلَى وَجْهٍ تَقِلُّ بِسَبَبِهِ جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ يُؤْمَرُونَ بِأَنْ يَسْكُنُوا نَاحِيَةً مِنْ الْمِصْرِ غَيْرَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْكُنُهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُونَ اللُّصُوصَ وَلَا يَظْهَرُ الْخَلَلُ فِي جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ مُصَلًّى الْعَامَّةِ فَهَذَا مِنْهُ إحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ وَكَذَلِكَ يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ وَمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ فَكَانَ الْإِظْهَارُ فِسْقًا مِنْهُمْ فِي التَّعَاطِي فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُ الدَّارِ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَضَرْبِ الْمَعَازِفِ وَالْخُرُوجِ سُكَارَى فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي دَارٍ بِالسَّوَادِ أَوْ بِالْجَبَلِ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَصْنَعَ فِيهَا مَا شَاءَ، كَانَ أَبُو الْقَاسِم الصَّفَّار رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ فَإِنَّ عَامَّةَ مَنْ يَسْكُنُهَا مِنْ الْيَهُودِ وَالرَّوَافِضِ- لَعَنَهُمْ اللَّهُ- فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي السَّوَادِ كَمَا يُمْنَعُونَ فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ مَنْ يَسْكُنُ الْقُرَى فِي دِيَارِنَا مُسْلِمُونَ وَفِيهَا الْجَمَاعَةُ وَالدَّرْسُ وَمَجْلِسُ الْوَعْظِ كَمَا فِي الْأَمْصَارِ، فَأَمَّا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَمْصَارَ مَوْضِعُ إعْلَامِ الدِّينِ نَحْوُ إقَامَةِ الْجَمَاعَاتِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ فِي إحْدَاثِ الْبِيَعِ فِي الْأَمْصَارِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الْقُرَى فَلَيْسَتْ بِمَوَاضِعِ أَعْلَامِ الدِّينِ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الْقُرَى.
(قَالَ:) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أَصَحُّ فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ لَا يَفْتَتِنُ بِهِ بَعْضُ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يُظْهِرُوا لَمْ يُمْنَعُوا مِنْ أَنْ يَضَعُوا مِنْ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ مَا شَاءُوا، وَخَوْفُ الْفِتْنَةِ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ فِي الْقُرَى أَكْثَرُ فَإِنَّ الْجَهْلَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى أَغْلَبُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «أَهْلُ الْقُبُورِ هُمْ أَهْلُ الْكُفُورِ» وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى مَا قُلْنَا قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ لَا تُرَائَى نَارَاهُمَا» وَقَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ».
وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مُسْلِمًا فَظَهَرَ مِنْهُ فِسْقٌ فِي الدَّارِ أَوْ دَعَارَةٌ أَوْ كَانَ يَجْمَعُ فِيهَا عَلَى الشُّرْبِ مَنَعَهُ رَبُّ الدَّارِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا لِمِلْكِهِ الدَّارَ بَلْ عَلَى سَبِيلِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَاحِبُ الدَّارِ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الدَّارِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَازِمٌ لَا يُفْسَخُ إلَّا بِعُذْرٍ وَالْعُذْرُ ضَرَرٌ يَزُولُ بِفَسْخِ الْإِجَارَةِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فَلَا تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ لِأَجْلِهِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ بَاعَهُ الدَّارَ كَانَ يَفْسَخُ الْبَيْعَ؛ لِمَا ظَهَرَ مِنْهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ، وَإِذَا سَقَطَ حَائِطٌ مِنْ الدَّارِ فَأَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ تَرْكَ الْإِجَارَةِ نَظَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالسُّكْنَى فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِمَا حَدَثَ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَاعْوَرَّ الْعَبْدُ، وَذَلِكَ لَا يُنْقِصُ مِنْ خِدْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ ذَلِكَ بِالسُّكْنَى فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي مَقْصُودِهِ وَالْعَيْبُ الْحَادِثُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِلسُّكْنَى بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ لِلْخِدْمَةِ إذَا مَرِضَ وَهَذَا؛ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ بِقَبْضِ الدَّارَ لَا تَدْخُلُ الْمَنْفَعَةُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ فَحُدُوثُ الْمُغَيِّرِ بَعْدَ قَبْضِ الدَّارِ وَقَبْلَهُ سَوَاءٌ إلَّا أَنْ يَنْتَبِهَ صَاحِبُ الدَّارِ قَبْلَ فَسْخِ الْمُسْتَأْجِرِ الْعَقْدَ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ لِزَوَالِ الْعَيْبِ وَارْتِفَاعِ الْمُغَيِّرِ كَالْعَبْدِ إذَا بَرَأَ وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ بِحَضْرَةِ رَبِّ الدَّارِ فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآجِرِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ حُكْمِ الرَّدِّ الْآخَرَ فَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ كَمَا فِي رَدَّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ.
وَلَوْ خَرَجَ فِي حَالِ غَيْبَةِ رَبِّ الدَّارِ فَالْأَجْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ سَكَنَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعَ التَّغَيُّرِ فَلَزِمَهُ الْأَجْرُ، وَكَذَلِكَ إنْ سَكَنَ مَعَ حَضْرَةِ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ فِي وَصْفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا رَضِيَ بِهِ لَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْأَجْرِ كَالْمُشْتَرِي إذَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ.
وَإِنْ سَقَطَتْ الدَّارُ كُلُّهَا فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ شَاهِدًا كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ غَائِبًا وَفِيهِ طَرِيقَانِ لِمَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ بِسُقُوطِ جَمِيعِ الْبِنَاءِ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى؛ فَإِنَّهُ بِالْبِنَاءِ كَانَ مَسْكَنًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ دَخَلَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ تَغَيُّرٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ اسْتِئْجَارَ الْحِرَابِ لِلسُّكْنَى لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً، فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى الْعَقْدُ وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ سَقَطَ الْأَجْرُ سَوَاءً كَانَ رَبُّ الدَّارِ شَاهِدًا أَوْ غَائِبًا؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ حُضُورِهِ لِلْفَسْخِ قَصْدًا لَا لِلِانْفِسَاخِ حُكْمًا.
(وَطَرِيقٌ) آخَرُ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِالِانْهِدَامِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ كِتَابُ الصُّلْحِ.
(قَالَ:) وَلَوْ صَالَحَ عَلَى سُكْنَى دَارٍ فَانْهَدَمَتْ الدَّارُ لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا فَانْهَدَمَ فَبَنَاهُ الْمُؤَاجِرُ وَأَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَسْكُنَهُ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ فَلَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْفَسِخْ وَلِأَنَّ أَصْلَ الْمَوْضِعِ مَسْكَنٌ بَعْدَ انْهِدَامِ الْبِنَاءِ يَتَأَتَّى فِيهِ السُّكْنَى بِنَصْبِ الْفُسْطَاطِ وَالْخَيْمَةِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ لِهَذَا وَلَكِنْ لَا أَجْرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ بِالِاسْتِئْجَارِ فَإِنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْأَجْرِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُ غَاصِبٌ مِنْ السُّكْنَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ، فَكَذَلِكَ إذَا انْهَدَمَ الْبِنَاءُ بِخِلَافِ مَا إذَا سَقَطَ حَائِطٌ مِنْهَا فَالتَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ هُنَاكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ بِالْعَقْدِ قَائِمٌ فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ مَا لَمْ يَفْسَخْ الْعَقْدُ بِمَحْضَرٍ مِنْ رَبِّ الدَّارِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً فَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ وَقَدْ طَلَبَ التَّسْلِيمَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ، ثُمَّ تَحَاكَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبْضِ فِي بَاقِي السَّنَةِ عِنْدَنَا وَلَا لَلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ فَسْخِ الْعَقْدِ فِيمَا بَقِيَ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَهُ الْمَنَافِعَ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَإِذَا فَاتَ بَعْضُ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُجْبَرُ فِيمَا بَقِيَ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ فَإِنَّهَا إذَا تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ تَخَيَّرَ فِيمَا بَقِيَ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ فَإِنَّهَا تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَذَلِكَ مُثْبِتٌ حَقَّ الْفَسْخِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ يُوضِحُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْتَأْجِرُ دَارًا وَحَانُوتًا سَنَةً وَمَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ شَهْرًا وَاحِدًا كَالْحَاجِّ بِمَكَّةَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَإِذَا مَنَعَهُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَقْصُودَةً لَهُ لَوْ قُلْنَا يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ بَعْدَ ذَلِكَ تَضَرَّرَ بِهِ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ أَثْبَتْنَا لَهُ حَقَّ الْفَسْخِ، وَعِنْدَنَا عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ حَتَّى يَتَجَدَّدَ انْعِقَادُهُمَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَلَا يَتَمَكَّنُ تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ مَعَ تَفَرُّقِ الْعُقُودِ وَفَوَاتُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي عَقْدٍ لَا يُؤَثِّرُ فِي عَقْدٍ آخَرَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارَيْنِ وَقَبَضَهُمَا فَانْهَدَمَتْ إحْدَاهُمَا لَا يَتَخَيَّرُ فِي الْآخَرِ، وَالْمَنَافِعُ بِقَبْضِ الدَّارِ لَمْ تَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ فَقَدْ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِدُخُولِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي ضَمَانِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الِانْهِدَامُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ إلَّا بَيْتًا كَانَ مَشْغُولًا بِمَتَاعِ الْمُؤَاجِرِ رَفَعَ مِنْهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ إنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى، وَكَذَلِكَ لَوْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ كُلَّهَا، ثُمَّ انْتَزَعَ مِنْهَا بَيْتًا؛ لِأَنَّهُ زَالَ تَمَكُّنُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ السُّكْنَى فِي الْبَيْتِ حِينَ اُنْتُزِعَ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ انْتَزَعَ الْكُلَّ مِنْهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَجْرُ فَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ، وَلَوْ غَصَبَ الدَّارَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَجْنَبِيُّ سَقَطَ عَنْهُ الْأَجْرُ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ لِزَوَالِ تَمَكُّنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّارِ بِالْمَوْصُوفِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ شَرَطَ لَهُ أَجَلًا أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعُ بَيْعٍ فَمَا يَصْلُحُ بَدَلًا فِي الْبَيْعِ يَصْلُحُ فِي الْإِجَارَةِ، وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ يَصْلُحُ بَدَلًا فِي الْبَيْعِ مَوْصُوفًا حَالًّا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا وَالثِّيَابُ لَا تَصْلُحُ مَوْصُوفَةً إلَّا مُؤَجَّلَةً وَالْحَيَوَانُ لَا يَصْلُحُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَهَذَا عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَقُولُ: الْمَنْفَعَةُ مَالٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْعَيْنِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عِوَضًا عَمَّا هُوَ مَالٌ وَعَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَقُولُ: لَيْسَ بِمَالٍ فَالْحَيَوَانُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ فِي الْعُقُودِ الْمُبَيَّنَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي الْبَدَلِ، وَهُوَ مَا لَمْ يُشْرَعْ فِي الْأَصْلِ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ، فَأَمَّا الْإِجَارَةُ مُبَيَّنَةٌ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْبَدَلِ مَشْرُوعَةٌ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ وَالْحَيَوَانُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَكُونُ مَجْهُولَ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ فِي الْإِجَارَةِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَأَعْتَقَهُ رَبُّ الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضَا لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ عَيْنًا لَا تُمَلَّكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَعِتْقُ الْإِنْسَانِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ بَاطِلٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ دَفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ وَلَمْ يَقْبِضْ الدَّارَ حَتَّى أَعْتَقَهُ رَبُّ الدَّارِ فَعِتْقُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ تُمْلَكُ بِالتَّعْجِيلِ فَإِنْ قَبَضَ الدَّارَ وَتَمَّتْ السُّكْنَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِاسْتِحْقَاقِ الدَّارِ أَوْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ غَرَقِ الدَّارِ أَوْ انْعَدَمَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْهَدْمِ فَعَلَى الْمُعْتِقِ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا انْفَسَخَ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَبْدِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَبْدِ لِنُفُوذِ الْعِتْقِ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ لَا يَبْطُلُ بِمَا حَدَثَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ سُلِّطَ عَلَيْهِ وَمَلَّكَهُ إيَّاهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ حَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ فَنَفَذَ عِتْقُهُ وَالْعِتْقُ بَعْدَ مَا نَفَذَ لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْ الْعَبْدَ حَتَّى سَكَنَ الدَّارَ شَهْرًا، ثُمَّ أَعْتَقَا جَمِيعًا الْعَبْدَ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِتْقُ رَبِّ الدَّارِ بِقَدْرِ أَجْرِ الشَّهْرِ، وَيَجُوزُ عِتْقُ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ مَلَكَ مِنْهُ حِصَّةَ مَا اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا فَإِذَا أَعْتَقَاهُ عَتَقَ، وَتُنْتَقَضُ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ جَوَازَهَا بِاعْتِبَارِ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَقَدْ فَاتَ بِالْعَقْدِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَّا أَنَّ فِي الْمَوْتِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ بِقَدْرِ مَا سَكَنَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْتَقَضَ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَبَقِيَتْ الْمَنْفَعَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ مُسْتَوْفَاةً بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِهَا وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَفِيمَا أَعْتَقَاهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ صَارَ قَابِضًا؛ لِمَا يَخُصُّ الْمُسْتَوْفِيَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الْعَبْدِ، وَلَوْ اسْتَكْمَلَ السُّكْنَى، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ أَوْ اسْتَحَقَّ كَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ دَفَعَ الْعَبْدَ وَلَمْ يَسْكُنْ الدَّارَ حَتَّى أَعْتَقَهُ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ الدَّارِ فَإِنَّمَا أَعْتَقَ مَالًا يَمْلِكُهُ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً فَسَكَنَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَالْأَجْرُ لَلْمُؤَاجَرِ دُونَ الْمُسْتَحِقِّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ غَاصِبًا وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا أَجَّرَ الْمَغْصُوبَ فَالْأَجْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ وَهُوَ الَّذِي ضَمِنَ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ لَا يَتَصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَنْ اسْتَرْبَحَ عَلَى ضَمَانِهِ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ كَمَا فِي الْمُودَعِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ، وَلَوْ انْهَدَمَتْ مِنْ السُّكْنَى ضَمِنَ السَّاكِنُ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ وَقَدْ كَانَ ضَمِنَ سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ عَيْبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ رَجَعَ كَمَا يَغْرَمُ بِسَبَبِهِ.
وَلَوْ أَجَرَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ فَامِيٍّ سَنَةً بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ، ثُمَّ اسْتَقْرَضَ رَجُلٌ مِنْ رَبِّ الدَّارِ شَهْرَيْنِ فَأَمَرَ الْفَامِيَّ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ فَكَانَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي بِهِ مِنْ الْفَامِيِّ الدَّقِيقَ وَالزَّيْتَ وَغَيْرَهُ حَتَّى اسْتَوْفَى أَجْرَ الشَّهْرَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ وَهُوَ بِنَفْسِهِ لَوْ عَامَلَ الْفَامِيَّ بِذَلِكَ يَجُوزُ، وَلَيْسَ لِلْفَامِيِّ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ رَبِّ الدَّارِ فَتَسْلِيمُهُ إلَيْهِ كَتَسْلِيمِهِ إلَى رَبِّ، الدَّارِ وَلَكِنَّهُ قَرْضٌ لِرَبِّ الدَّارِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَقْرَضَهُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ دِينَارًا فِيمَا أَخَذَ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَهُمْ فِي الْمُصَارَفَةِ فِي الْأَجْرِ مَعَ رَبِّ الْبَيْتِ فَكَذَلِكَ مَعَ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ وَهُوَ الْمُسْتَقْرِضُ، وَلَوْ كَانَ لِلْفَامِيِّ عَلَى الرَّجُلِ دِينَارٌ أَوْ أَجْرُ الْبَيْتِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَمَضَى شَهْرَانِ، ثُمَّ أَمَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَامِيَّ أَنْ يَدْفَعَ أَجْرَ الشَّهْرَيْنِ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ وَقَاصَّهُ بِالدِّينَارِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بِالْفَضْلِ شَيْئًا فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَعَلَهُ رَبُّ الْبَيْتِ فَإِنَّ أَجْرَ الشَّهْرَيْنِ قَدْ وَجَبَ وَالْمُقَاصَّةُ بِالدِّينَارِ بَعْدَ وُجُوبِهَا تَجُوزُ بِالتَّرَاضِي وَلَيْسَ هَذَا تَصَرُّفٌ فِيمَا بَيْنَ رَبِّ الْبَيْتِ وَالْمُسْتَقْرِضِ وَلَكِنَّهُ صَرْفٌ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْتَقْرِضِ وَالْفَامِيِّ حَتَّى يَرْجِعَ رَبُّ الْبَيْتِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِالدَّرَاهِمِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ اشْتَرَى بِهِ الْفَامِيُّ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْبَيْتِ أَقْرَضَ الدَّرَاهِمَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ وَشَرْطُ شَيْءٍ آخَرَ مَكَانَهُ بَاطِلٌ وَإِنْ أَحَالَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِالدَّرَاهِمِ فَقَاصَّهُ بِالدِّينَارِ فَإِنَّمَا لِلْمُقْرِضِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا مِنْ الشَّرْطِ كَانَ صَرْفًا بِالنَّسِيئَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَضَهُ أَجْرَ الشَّهْرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْكُنَ شَيْئًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ وَطَابَتْ نَفْسُ الْفَامِيِّ بِذَلِكَ وَأَعْطَاهُ بِهِ دَقِيقًا أَوْ زَيْتًا أَوْ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْهَا، ثُمَّ مَاتَ رَبُّ الْبَيْتِ قَبْلَ السُّكْنَى أَوْ انْهَدَمَ الْبَيْتُ أَوْ اُسْتُحِقَّ لَمْ يَرْجِعْ الْفَامِيُّ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِشَيْءٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ رَبِّ الْبَيْتِ فِيمَا قَبَضَهُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ بِالدَّرَاهِمِ وَرَبُّ الْبَيْتِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِالدَّرَاهِمِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخِيرًا فِي حِصَّةِ الْبَيْتِ هَكَذَا، فَأَمَّا فِي حِصَّةِ الدِّينَارِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالدِّينَارِ بِعَيْنِهِ عَلَى الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ الْمُصَارَفَةَ كَانَتْ قَبْلَ وُجُوبِ الْأَجْرِ وَقَدْ بَطَلَتْ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ التَّقَابُضِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالدِّينَارِ كَمَا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَدْ وَجَبَ الْأَجْرُ عَلَى الْفَامِيِّ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَجِّلَهُ قُلْنَا: شَرْطُ التَّعْجِيلِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ وَقَوْلُهُ: وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَجِّلَهُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِمَاسِ لَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ كَانَ قَالَ: وَطَابَتْ نَفْسُ الْفَامِيِّ بِذَلِكَ.
وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ السُّكْنَى بِالْخِدْمَةِ وَالرُّكُوبُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ اتَّفَقَتْ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ اخْتَلَفَتْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ، وَمُبَادَلَةُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ صَحِيحٌ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ التَّفَاوُتِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ بِمَالِ الرِّبَا فَيَجُوزُ مُبَادَلَةُ بَعْضِهَا بِالْبَعْضِ، وَإِنْ جَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالدَّرَاهِمِ جَازَ مُعَاوَضَةً عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ، وَلَنَا فِيهِ طَرِيقَانِ.
(أَحَدُهُمَا) مَنْقُولٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: مُبَادَلَةُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نُسْأَةً وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ فَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ كَانَ هَذَا مُبَادَلَةَ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ يَحْرُمُ نَسِيئَةً وَبِالْجِنْسِ يَحْرُمُ النَّسَأُ عِنْدَنَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، فَإِنْ قِيلَ النَّسَأُ مَا يَكُونُ عَنْ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ وَالْأَجَلُ هُنَا غَيْرُ مَشْرُوطٍ كَيْفَ وَالْمَنَافِعُ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ دُونَ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْمُدَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهُ جُمْلَةً بَلْ يَكُونُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْأَجَلِ أَوْ أَبْلَغَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالتَّسْلِيمِ تَتَأَخَّرُ بِالْأَجَلِ، فَكَذَلِكَ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا تَثْبُتُ فِي الْحَالِ بَلْ تَتَأَخَّرُ إلَى حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا أَبْلُغُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالْأَجَلِ لَا يَتَأَخَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ وَهُنَا يَتَأَخَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَيْسَ بِدَيْنٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَنَافِعُ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَالْمُحَرَّمُ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ فَلِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ جَوَّزْنَا الْعَقْدَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَلِلْجِنْسِيَّةِ أَفْسَدْنَا الْعَقْدَ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ جَوَازَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِلْحَاجَةِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى وَجْهٍ تَرْتَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ وَفِي مُبَادَلَةِ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ السُّكْنَى قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِالْعَقْدِ إلَّا مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، فَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ الْحَاجَةُ مُتَحَقِّقَةٌ وَبِالْعَقْدِ يَحْصُلُ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا قَبْلَهُ فَصَاحِبُ السُّكْنَى قَدْ تَكُونُ حَاجَتُهُ إلَى خِدْمَةِ الْعَبْدِ أَوْ رُكُوبِ الدَّابَّةِ، ثُمَّ إنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ إذَا اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا الْمَنْفَعَةَ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَ الْمَنْفَعَةِ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهَا، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا وَلَمْ يُسَمِّ الْأَجْرَ وَسَكَنَهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فَكَمَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الْجَائِزِ، فَكَذَلِكَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ.
وَإِذَا أَجَّرَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ شَهْرًا بِثَوْبٍ بِعَيْنِهِ فَسَكَنَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الثَّوْبَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ فَهُوَ كَالْمَبِيعِ وَبَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ مِنْ الْبَائِعِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ قَالَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ كَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ مِثْلِهَا وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى بَقَاءِ الْغَرَرِ، وَالْمَكِيلُ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ أَوْ الْمَوْزُونِ وَتِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التِّبْرَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي كِتَابِ الشِّرْكَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ شَيْئًا مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ مَوْصُوفًا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا وَالِاسْتِبْدَالُ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ، فَكَذَلِكَ بِالْأَجْرِ فَإِنْ ابْتَاعَ بِهِ مِنْهُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ إنْ قَبَضَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَإِنْ ابْتَاعَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَلَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَقْبِضَ مِنْهُ فَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ انْتَقَضَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهُوَ الْحُكْمُ فِي ثَمَنِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ يَقُولُ: كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا بَاعَهُ مِنْهُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِذِمَّتِهِ وَإِذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ وَلَا يَدْرِي مَتَى يَسْتَوْفِي فَإِنَّمَا يَبِيعُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَقَدْ شَرَطَ لِلتَّسْلِيمِ أَجَلًا مَجْهُولًا وَهُوَ إلَى أَنْ يَخْرُجَ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا بِثَوْبٍ فَأَجَرَهُ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الثَّوْبِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ، وَالْعَقْدُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فِيهِ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَأَجَرَهُ بِدِينَارَيْنِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ بَيْنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مُبَادَلَةَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارَيْنِ تَجُوزُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ وَلَا يَظْهَرُ بَيْنَهُمَا الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ فَفِي عَقْدَيْنِ أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ أَجْرُ الدَّارِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ قَفِيزَ حِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ وَأَشْهَدَ الْمُؤَاجِرُ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ قَفِيزَ حِنْطَةٍ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ نَبَهْرَجَةٌ وَأَنَّ الطَّعَامَ مَعِيبٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ فَإِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يُعْرَفُ بِالصِّفَةِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ وَلَا مُنَاقَضَةَ فِي كَلَامِهِ فَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ النَّبَهْرَجَةَ وَاسْمُ الْحِنْطَةِ يَتَنَاوَلُ الْمَعِيبَ، وَإِنْ كَانَ حِينَ أَشْهَدَ قَالَ: قَدْ قَبَضْت مِنْ أَجْرِ الدَّارِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ قَفِيزَ حِنْطَةٍ لَمْ يُصَدَّقْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ادِّعَاءِ الْعَيْبِ وَالزَّيْفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اسْتَوْفَيْت أَجْرَ الدَّارِ، ثُمَّ قَالَ: وَجَدْتُهُ زُيُوفًا لَمْ يُصَدَّقْ بِبَيِّنَةٍ وَلَا غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الْجِيَادِ فَإِنَّ أَجْرَ الدَّارِ مِنْ الْجِيَادِ فَيَكُونُ هُوَ مُنَاقِضًا فِي قَوْلِهِ وَجَدْتُهُ زُيُوفًا وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَلَوْ كَانَ الْأَجْرُ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ فَقَبَضَهُ، ثُمَّ جَاءَ يَرُدُّهُ بِعَيْبٍ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَيْسَ هَذَا ثَوْبِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ قَبَضَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ، ثُمَّ ادَّعَى الْآخَرُ لِنَفْسِهِ حَقَّ الرَّدِّ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الدَّارِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَيْبِ رَدَّهُ سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ يَسِيرًا أَوْ فَاحِشًا عَلَى قِيَاسِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ قِيمَةَ السُّكْنَى وَهُوَ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا فَسَدَ لَزِمَهُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى مِنْ السُّكْنَى وَرَدُّ السَّكَنِ بِرَدِّ أَجْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ لَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهُ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ يَكُونُ مِنْ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ.
وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الدَّارِ وَفِيهَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ مِنْ كُنَاسَةٍ فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إخْرَاجُهُ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الَّذِي شَغَلَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِهِ فَعَلَيْهِ تَفْرِيغُهُ إذَا خَرَجَ مِنْ الدَّارِ وَلَكِنْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَأَمَّا الْبَالُوعَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَنْظِيفُهَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ هَذَا كَالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ.
(أَحَدُهُمَا) الْعُرْفُ فَإِنَّ النَّاس لَمْ يَتَعَارَفُوا تَكْلِيفَ الْمُسْتَأْجِرِ تَنْظِيفَ الْبَالُوعَةِ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَنْزِلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرْفَ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِجَارَةِ.
(وَالثَّانِي) أَنَّ الْبَالُوعَةَ مَطْوِيَّةٌ فَتَحْتَاجُ لِلتَّنْظِيفِ وَإِلَى الْحَفْرِ، وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَا كَانَ ظَاهِرًا فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ فِي التَّفْرِيغِ إلَى نَقْضِ بِنَاءٍ وَحَفْرٍ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُ ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التُّرَابِ الظَّاهِرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا وَهُوَ فِيهَا؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقًّا قَبْلَهُ وَهُوَ تَفْرِيغُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَيَدَّعِي إحْدَاثَ شَغْلِ مِلْكِهِ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَأَمَّا مَسِيلُ مَاءِ الْحَمَّامِ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ مُسْقَفًا فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَنْسُهُ إذَا امْتَلَأَ هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَلِأَنَّهُ ظَاهِرٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا يُسْقَفُ لِكَيْ لَا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِرَائِحَتِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْلَأُ لِيُتْرَكَ بَلْ لِيُفَرَّغَ إذَا امْتَلَأَ وَكَانَ التَّفْرِيغُ عَلَى مَنْ مَلَأَهُ بِخِلَافِ الْبَالُوعَةِ فَقَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي بِئْرِ الْبَالُوعَةِ لَا يَكُونُ لِقَصْدِ النَّقْلِ وَالتَّفْرِيغِ بَلْ يُتْرَكُ ذَلِكَ عَادَةً؛ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ.
وَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ الدَّارِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ حِينَ أَجَرَهُ إخْرَاجَ مَا أَحْدَثَهُ فِيهَا مِنْ تُرَابٍ أَوْ سِرْجِينٍ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِدُونِ الشَّرْطِ فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ فَامِيٌّ مِنْ رَجُلٍ بَيْتًا فَبَاعَ فِيهِ زَمَانًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ وَاخْتَلَفَا فِيمَا فِيهِ مِنْ الْأَوَانِي وَالرُّفُوفِ وَالتَّحَاتِحِ الَّتِي قَدْ بَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَا أَحَدَثْتهَا وَقَالَ رَبُّ الْبَيْتِ كَانَتْ فِيهِ حِينَ أَجَّرْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَهُوَ الَّذِي يَتَّخِذُ ذَلِكَ عَادَةً لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ فَرَبُّ الْبَيْتِ مُسْتَغْنٍ عَنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَبْنِي الْبَيْتَ لِيُؤَاجِرَهُ مِمَّنْ يَسْتَأْجِرُ مِنْهُ، ثُمَّ كُلُّ عَامِلٍ يَتَّخِذُ فِيهِ مَا يَكُونُ مِنْ أَدَاةِ عَمَلِهِ، وَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْبَيْتِ وَفِي الْمَوْضُوعِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ كَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ وَكَذَلِكَ الطَّحَّانُ إذَا خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَتَاعِ الرَّحَى وَمَا تَحْتَهَا مِنْ بِنَائِهَا وَخَشَبِهَا الَّتِي فِيهَا وَأُسْطُوَانَاتهَا فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلطَّحَّانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَدَاءِ عَمَلِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَصَّابُ وَالْقَلَّاءُ وَالْحَدَّادُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَوْعِيَةِ وَالْأَدَاةِ الَّتِي تَكُونُ لِلصَّانِعِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَطْبُخَ فِيهَا الْآجُرَّ وَالْفَخَّارَ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْأَتُّونِ الَّتِي يَطْبُخُ فِيهَا الْآجُرَّ فَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ كَسَائِرِ الْأَبْنِيَةِ وَفِي الْبِنَاءِ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأَرْضِهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْت الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الَّذِي بَنَى وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى مَا يَعْرِفُ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ ثُمَّ هَذَا الْبِنَاءُ لِحَاجَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَيْسَ لِحَاجَةِ رَبِّ الْأَرْضِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَبْنِي الْأَتُّونَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَّخِذُهُ أَهْلُ صَنْعَتِهِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي بِنَاءٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَا أَوْ فِي بَابٍ أَوْ خَشَبَةٍ أُدْخِلَتْ السَّقْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ أَنَّهُ أَجَرَهَا وَهِيَ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْآجُرُّ الْمَفْرُوشُ وَالْغَلَقُ وَالْمِيزَابُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّ الدَّارِ هُوَ الَّذِي يَتَّخِذُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّاكِنَ بِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ السُّكْنَى فِي الدَّارِ وَعَلَى رَبِّ الدَّارِ تَمْكِينُ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ الَّذِي يُحْدِثُ مَا بِهِ لِيَتِمَّ تَمَكُّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَمَا كَانَ فِي الدَّارِ مِنْ لَبِنٍ مَوْضُوعٍ أَوْ آجُرٍّ أَوْ جِصٍّ أَوْ جِذْعٍ أَوْ بَابٍ مَوْضُوعٍ فَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ غَيْرِ مُرَكَّبٍ فِي الْبِنَاءِ وَلَا هُوَ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَفِي كُلِّ شَيْءٍ جَعَلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِحَقِّهِ.
وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ بِئْرُ مَاءٍ مَطْوِيَّةٌ أَوْ بَالُوعَةٌ مَحْفُورَةٌ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَا أَحْدَثْتهَا وَأَنَا أَقْلَعُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ الْبِنَاءِ وَمِمَّا لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ السُّكْنَى وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي قَلْعِهَا إلَى نَقْضِ الْبِنَاءِ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ، وَكَذَلِكَ الْخُصُّ وَالسُّتْرَةُ وَالْخَشَبُ الْمَبْنِيُّ فِي بِنَاءٍ وَالدَّرَجُ فَالْمُرَادُ مِنْ الدَّرَجِ مَا يَكُونُ مَبْنِيًّا مِنْهُ، فَأَمَّا مَا يَكُونُ مَوْضُوعًا فِيهِ كَالسُّلَّمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي رَفْعِهِ إلَى قَلْعِ الْبِنَاءِ وَهُوَ مَوْضُوعٌ كَالْأَمْتِعَةِ.
(قَالَ) وَكَذَلِكَ التَّنُّورُ، وَكَذَلِكَ الْأَتُّونُ الَّتِي يَطْبُخُ فِيهَا الْآجُرَّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَفِي التَّنُّورِ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْعُرْفِ، ثُمَّ التَّنُّورُ مِنْ تَوَابِعِ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ فَيَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ سَاكِنٍ، فَأَمَّا الْأَتُّونُ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَنْ يَطْبُخُ الْآجُرَّ دُونَ مَنْ يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ عَمَلًا آخَرَ، فَالظَّاهِرُ هُنَاكَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ وَالظَّاهِرُ هُنَا أَنَّ رَبَّ الدَّارِ هُوَ الَّذِي يَبْنِي التَّنُّورَ، وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ كُوَّارِتُ نَحْلٍ أَوْ حَمَّامَاتٌ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ كَالْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ، وَلَوْ أَقَرَّ رَبُّ الدَّارِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ خَصَّصَهَا أَوْ فَرَشَهَا بِالْآجُرِّ أَوْ رَكَّبَ فِيهَا بَابًا أَوْ غَلَقًا كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَقْلَعَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَضُرُّ قَلْعُهُ بِالدَّارِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مِلْكِهِ، فَأَمَّا مَا يَضُرُّ بِهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْلَعَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ رَبِّ الدَّارِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ رَبَّ الدَّارِ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ غَصْبًا لَمْ يَكُنْ لِمَالِكِ ذَلِكَ الْعَيْنِ أَنْ يَقْلَعَهُ فَإِذَا فَعَلَهُ الْمَالِكُ أَوْلَى وَلَكِنَّ قِيمَةَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَيْنَ احْتَبَسَ عِنْدَهُ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ كَمَا لَوْ انْصَبَغَ ثَوْبُ إنْسَانِ بِصِبْغِ الْغَيْرِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ قِيمَتَهُ عِنْدَ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ تَمَلَّكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَوْ انْهَدَمَ بَيْتٌ مِنْ الدَّارِ فَاخْتَلَفَا فِي نَقْضِهِ فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ بَيْتٍ انْهَدَمَ فَهُوَ لِرَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ اخْتَلَفَا قَبْلَ الِانْهِدَامِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الدَّارِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ لِي فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ كَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ وَلَوْ كَانَ رَبُّ الدَّارِ أَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ فِي الدَّارِ عَلَى أَنْ يَحْبِسَهُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ فَاتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ وَاخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ اخْتِلَافِهِمَا فِيمَا صَارَ الْمُسْتَأْجِرُ مُوَفِّيًا مِنْ الْأَجْرِ فَهُوَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ وَرَبُّ الدَّارِ يُنْكِرُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَبُّ الدَّارِ لَمْ تَبْنِ أَوْ بَنَيْتَ بِغَيْرِ إذْنِي؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَبِهِ يَصِيرُ مُوَفِّيًا الْأَجْرَ عِنْدَ الْبِنَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ لِإِنْكَارِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى بَابٍ مِنْهَا مِصْرَاعَانِ فَسَقَطَ أَحَدُهُمَا وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ هُمَا لِي أَوْ قَالَ: هَذَا السَّاقِطُ لِي وَيَعْرِفُ أَنَّهُ أَخُو الْمُغْلَقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، أَمَّا فِي الْمُغْلَقِ غَيْرُ مُشْكِلٍ وَالسَّاقِطُ إذَا كَانَ أَخُ الْمُغْلَقِ فَهُمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ مَضَى فِي مَعْنَى الِانْتِفَاعِ حَتَّى لَا يَنْتَفِعَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إقَامَتِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِيهَا بَيْتٌ مُصَوَّرٌ بِجُذُوعٍ مُصَوَّرَةٍ فَسَقَطَ جِذْعٌ مِنْهَا فَكَانَ فِي الْبَيْتِ مَطْرُوحًا فَقَالَ رَبُّ الدَّارِ هُوَ مِنْ سَقْفِ هَذَا الْبَيْتِ وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ بَلْ هُوَ لِي وَيَعْرِفُ أَنَّ تَصَاوِيرَهُ مُوَافِقٌ لِتَصَاوِيرِ الْبَيْتِ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ، وَهُوَ نَظِيرُهُ مَا لَوْ اخْتَلَفَا الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهَا، ثُمَّ مُوَافَقَةُ التَّصَاوِيرِ وَكَوْنُ مَوْضِعِ ذَلِكَ الْجِذْعِ مِنْ السَّقْفِ ظَاهِرًا دَلِيلٌ فَوْقَ الْيَدِ، وَإِذَا جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ ذِي الْيَدِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ فَهَذَا أَوْلَى، وَعِمَارَةُ الدَّارِ وَتَطْيِينُهَا وَإِصْلَاحُ الْمِيزَابِ وَمَا وَهِيَ مِنْ بِنَائِهَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ سُكْنَى الدَّارِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ سُتْرَةٍ يَضُرُّ تَرْكُهَا بِالسُّكْنَى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا لِوُجُودِ الْعَيْبِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ كَذَلِكَ وَقَدْ رَآهَا فَحِينَئِذٍ هُوَ رَاضٍ بِالْعَيْبِ فَلَا يَرُدُّهَا لِأَجْلِهِ، وَإِصْلَاحُ بِئْرِ الْمَاءِ وَالْبَالُوعَةِ وَالْمَخْرَجِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَ امْتَلَأَ مِنْ فِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى هَدْمِ الْبِنَاءِ، وَلَكِنْ لَا يُجْبَرُ رَبُّ الدَّارِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا الْمُسْتَأْجِرُ، وَإِنْ شَاءَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُصْلِحَ ذَلِكَ فَعَلَ وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ، وَإِنْ شَاءَ خَرَجَ إذَا أَبَى رَبُّ الدَّارِ أَنْ يَفْعَلَهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إصْلَاحِ مِلْكِهِ وَلَكِنَّ الْعَيْبَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ يُثْبِتُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ الْفَسْخِ فِيمَا يَعْتَمِدُ لُزُومُهُ تَمَامَ الرِّضَاءِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ أَرْضٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ أَوْ نِصْفَ عَبْدٍ أَوْ نِصْفَ دَابَّةٍ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالشُّيُوعُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ سَوَاءٌ عِنْدَهُ فِي إفْسَادِ الْإِجَارَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ جَائِزٌ وَيَتَهَايَآنِ فِيهِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ فَتَلْزَمُ فِي الْمَشَاعِ كَالْبَيْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْإِجَارَةِ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ وَلِلْجُزْءِ الشَّائِعِ مَنْفَعَةٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَجَّرَ مِنْ شَرِيكِهِ يَجُوزُ الْعَقْدُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ أَجَّرَ مِنْ رَجُلَيْنِ تَجُوزُ الْعُقُودُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْتَأْجَرِينَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ النِّصْفِ شَائِعًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ نِصْفَ دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ جَازَ ذَلِكَ وَتَأْثِيرُ الشُّيُوعِ فِي الْمَنْعِ مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ كَمَا فِي الْهِبَةِ مَعَ الْبَيْعِ فَإِذَا جَازَ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةِ نِصْفِ الدَّارِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فَبِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: الْتَزَمَ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ بَاعَ الْآبِقَ أَوْ أَجَرَهُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَتَسْلِيمُ الْمَنْفَعَةِ يَكُونُ بِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا يَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ النِّصْفِ شَائِعًا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ؛ فَإِنَّهُمَا إنْ تَهَايَآ عَلَى الْمَكَانِ فَإِنَّمَا يَسْكُنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاحِيَةً بِعَيْنِهَا، وَإِنْ تَهَايَآ عَلَى الزَّمَانِ فَإِنَّمَا يَسْكُنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ الدَّارِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ لَا يَتَحَقَّقُ فَكَانَ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مُلْتَزِمًا تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَيُحْكَى عَنْ أَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا أَجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا أَجَرَ الْمَالِكُ نِصْفَ أَرْضِهِ لَا يَصِحُّ وَكَانَ يُفَرِّقُ فَيَقُولُ: يَحْتَاجَانِ إلَى الْمُهَايَأَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إلَى يَدِ الْأَجِيرِ جَمِيعُ الْمُسْتَأْجَرِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ إذَا تَهَايَآ عَلَى الزَّمَانِ أَوْ بَعْضُ الْمُسْتَأْجَرِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ إذَا تَهَايَآ عَلَى الْمَكَانِ وَعَوْدُ الْمُسْتَأْجَرِ إلَى يَدِ الْأَجِيرِ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ كَمَا لَوْ أَعَارَهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الْأَجِيرِ أَوْ أَجَرَهُ مِنْهُ فَاسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ بِسَبَبٍ يَقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ فَأَمَّا إذَا أَجَرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَالْمُهَايَأَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالشَّرِيكِ فَلَا يَعُودُ الْمُسْتَأْجَرُ إلَى يَدِ الْأَجِيرِ وَإِنَّمَا يَعُودُ إلَى يَدِ أَجْنَبِيٍّ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْإِجَارَةِ كَمَا لَوْ أَعَارَهُ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ أَجَّرَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالْمُهَايَأَةِ وَالْمُهَايَأَةُ عَقْدٌ آخَرُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَبِدُونِهِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ، فَإِنْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ مَعَ الْفَسَادِ اسْتَوْجَبَ أَجْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَلَا يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ كَمَا فِي بَيْعِ الْآبِقِ فَإِذَا اسْتَوْفَى فَقَدْ تَحَقَّقَ الِاسْتِيفَاءُ بَعْدَ انْعِقَادِ.
الْعَقْدِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ هُنَاكَ بِالتَّخْلِيَةِ يَتِمُّ، وَذَلِكَ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ يَتِمُّ، فَأَمَّا إذَا أَجَّرَهُ مِنْ شَرِيكِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ كَالرَّهْنِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَتَنَاوَلُهَا الْعَقْدُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِغَيْرِهَا وَهُوَ مَنْفَعَةُ نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَحَدَ زَوْجَيْ الْمِقْرَاضِ لِمَنْفَعَةِ قَرْضِ الثِّيَابِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ يَتَأَتَّى هُنَا؛ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ جَمِيعَ الدَّارِ فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا مَنْفَعَةَ نَصِيبِهِ بِمِلْكِهِ وَمَنْفَعَةَ الْمُسْتَأْجِرِ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ فَهُنَاكَ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ نَظِيرُ بَيْعِ الْآبِقِ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ يَجُوزُ بِكَوْنِ التَّسْلِيمِ مَقْدُورًا عَلَيْهِ بِيَدِهِ وَمِنْ غَيْرِ مَنْ فِي يَدِهِ لَا يَجُوزُ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَهَذَا بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَبِالشُّيُوعِ هُنَاكَ يَنْعَدِمُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْحَبْسُ الْمُسْتَدَامُ وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ فِي الشَّائِعِ وَفِي هَذَا الشَّرِيكُ وَالْأَجْنَبِيُّ سَوَاءٌ، فَأَمَّا هُنَا بِالشُّيُوعِ لَا يَنْعَدِمُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ إنَّمَا يَنْعَدِمُ التَّسْلِيمُ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ وَبِهِ فَارَقَ الْهِبَةَ أَيْضًا فَالشُّيُوعُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ الَّذِي بِهِ يَقَعُ الْمِلْكُ، وَالْهِبَةُ مِنْ الشَّرِيكِ وَمِنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَأَمَّا إذَا أَجَّرَ مِنْ رَجُلَيْنِ فَتَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لِلْمُؤَاجِرِ، ثُمَّ الْمُهَايَأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجَرِينَ بِحُكْمِ مِلْكَيْهِمَا وَهُوَ نَظِيرُ الرَّاهِنِ مِنْ رَجُلَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِوُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا أَوْجَبَهُ الرَّاهِنُ لَهُمَا فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجَرِينَ حَتَّى بَطَلَ الْعَقْدُ فِي نَصِيبِهِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ صَبِيحٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى شُيُوعٍ يَقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَبْقَى الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ تَجَدُّدَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا أَصْلُ الْعَقْدِ فَمُنْعَقِدٌ لَازِمٌ فِي الْحَالِ وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى الشُّيُوعُ طَارِئٌ وَالطَّارِئُ مِنْ الشُّيُوعِ لَيْسَ نَظِيرَ الْمُقَارِنِ كَمَا فِي الْهِبَةِ إذَا وَهَبَ لَهُ جَمِيعَ الدَّارِ وَسَلَّمَهَا، ثُمَّ رَجَعَ فِي نِصْفِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِهَا اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ وَالْمُؤَثِّرُ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ فَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ.
رَجُلٌ تَكَارَى دَارًا مِنْ رَجُلٍ عَلَى أَنْ جَعَلَ أَجْرَهَا أَنْ يَكْسُوَهُ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، وَالثِّيَابُ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ لَا تَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ فَلَا تَصْلُحُ أُجْرَةً وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِيمَا سَكَنَ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ.
وَلَوْ تَكَارَى مَنْزِلًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ فَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْزِلِ وَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ الْبَابَ فَجَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ وَطَلَبَ الْأَجْرَ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَفْتَحْهُ وَلَمْ أَنْزِلْهُ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى فَتْحِهِ فَالْكِرَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ؛ فَإِنَّهُ فِي الِامْتِنَاعِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْأَخِيرِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فَتْحِهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَعَلَى الْمُؤَاجِرِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِدُونِهِ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِ.
وَلَوْ تَكَارَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ وَفِي الدَّارِ سُكَّانٌ فَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْزِلِ فَلَمَّا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ طَلَبَ الْأَجْرَ فَقَالَ: مَا سَكَنْتُهُ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَنْزِلِ فِيهِ فُلَانٌ السَّاكِنُ، وَالسَّاكِنُ مُقِرٌّ بِذَلِكَ أَوْ جَاحِدٌ؛ فَإِنَّهُ بِحُكْمِ الْحَالِ فَإِنَّهُ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ فِيهِ فِي الْحَالِ فَالْأَجْرُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ الْغَاصِبُ فِيهِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فِيمَا مَضَى وَالْحَالُ مَعْلُومٌ فَيُرَدُّ الْمَجْهُولُ إلَى الْمَعْلُومِ وَيَحْكُمُ فِيهِ الْحَالُ كَالْمُسْتَأْجِرِ مَعَ رَبِّ الرَّحَا إذَا اخْتَلَفَا فِي انْقِطَاعِ الْمَاءِ فِي الْمُدَّةِ بِحُكْمِ الْحَالِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَنْزِلِ سَاكِنٌ فِي الْحَالِ فَالْمُسْتَأْجِرُ ضَامِنٌ الْأَجْرَ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْحَالِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا فِيمَا مَضَى فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ وَالْمَانِعُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَوْ تَكَارَى بَيْتًا وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَعْمَلُ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ وَهُوَ السُّكْنَى فِي الْبَيْتِ، وَذَلِكَ لَا يَتَفَاوَتُ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَسْمِيَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ الْقِصَارَةَ وَنَظَائِرَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ فَإِنْ عَمِلَهَا فَانْهَدَمَ الْبَيْتُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِمَا انْهَدَمَ مِنْ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ مُتَعَدٍّ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِيمَا ضَمِنَ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَلَّكُ الْمَضْمُونَ بِالضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْ مَنْفَعَةِ مِلْكِ نَفْسِهِ، وَإِنْ سَلَّمَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِيمَا صَنَعَ؛ وَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا، وَلَا أَجْرَ عَلَى الْغَاصِبِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَزِيَادَةً وَإِنَّمَا كَانَ ضَامِنًا بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَإِذَا سَلَّمَ سَقَطَ اعْتِبَارُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ حُكْمًا فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَإِذَا انْهَدَمَ فَقَدْ وَجَبَ اعْتِبَارُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ.
وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: اسْتَأْجَرْتُهُ مِنْكَ لِأَعْمَلَ فِيهِ الْقِصَارَةَ وَقَالَ رَبُّ الْبَيْتِ: أَكْرَيْتُكَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ وَلَوْ أَنْكَرَ الْإِيجَابَ وَالْإِذْنَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِيمَا اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ وَرَبُّ الدَّارِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ سَكَنَهُ وَأَسْكَنَ فِيهِ مَعَهُ غَيْرَهُ فَانْهَدَمَ مِنْ سُكْنَى غَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيمَا صَنَعَ وَكَثْرَةُ السَّاكِنِينَ فِي الدَّارِ لَا تُوهِنُ الْبِنَاءَ وَلَكِنَّهَا تَزِيدُ فِي عِمَارَةِ الدَّارِ.
وَإِذَا طَلَب رَبُّ الْبَيْتِ أَجْرَ مَا سَكَنَ فَقَالَ السَّاكِنُ أَسْكَنْتنِيهِ بِغَيْرِ أَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الدَّارِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْأَجْرَ فِي ذِمَّةِ السَّاكِنِ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَالسَّاكِنُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَيْنِ إذَا قَالَ: بِعْتُهُ مِنْكَ وَقَالَ الْآخَرُ وَهَبْته لِي وَقَدْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لِأَنَّ الْعَيْنَ مُتَقَوِّمٌ فِي نَفْسِهِ وَلَا تَسْقُطُ قِيمَتُهُ إلَّا بِالْإِيجَابِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِشَرْطِ الْبَدَلِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ السَّاكِنُ الدَّارُ لِي أَوْ قَالَ: هِيَ دَارُ فُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّاكِنِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ مِلْكَهُ وَالسَّاكِنُ خَصْمٌ لَهُ لِظُهُورِهَا فِي يَدِهِ فَلَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ هِيَ دَارُ فُلَانٍ وَلِأَنَّ الطَّالِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ فِعْلًا وَهُوَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهُ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ قَالَ السَّاكِنُ وَهَبْتهَا لِي لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لَهُ وَادَّعَى تَمْلِيكَهَا عَلَيْهِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ مُنْكِرٌ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ إنْ أَقَامَهَا؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ سَبَبَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ هُنَا وَهُوَ الْهِبَةُ فَإِنْ أَقَرَّ بِأَصْلِ الْكِرَاءِ وَادَّعَى الْهِبَةَ فَدَعْوَاهُ بَاطِلٌ وَالْكِرَاءُ لَازِمٌ لِإِقْرَارِهِ لَهُ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الْهِبَةِ.
رَجُلٌ تَكَارَى مِنْ رَجُلَيْنِ مَنْزِلًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلَّ سَنَةٍ فَخَرَجَ الرَّجُلُ مِنْهُ وَعَمَدَ أَهْلُهُ فَأَكْرَوْا مِنْ الْمَنْزِلِ بَيْتًا وَأَنْزَلُوا إنْسَانًا بِغَيْرِ أَجْرِ فَانْهَدَمَ الْمَنْزِلُ الَّذِي سَكَنُوهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ غَاصِبٌ وَالْعَقَارُ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الثَّانِي إلَّا أَنْ يَنْهَدِمَ مِنْ عَمَلِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُتْلِفًا وَإِذَا انْهَدَمَ مِنْ عَمَلِهِ وَضَمِنَهُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الَّذِي أَجَّرَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِعَقْدِ ضَمَانٍ بَاشَرَهُ.
رَجُلٌ تَكَارَى مَنْزِلًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ طَلَّقَ امْرَأَته وَذَهَبَ مِنْ الْمِصْرِ فَلَا كِرَاءَ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَأْجِرْ وَلَمْ تَلْتَزِمْ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ وَالْكِرَاءُ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِمَنْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي السُّكْنَى فِي الْمَنْزِلِ وَلَا تَخْرُجُ مِنْ الْمَنْزِلِ حَتَّى يُهِلَّ الْهِلَالُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ لَزِمَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ، فَإِنْ تَكَارَى عَلَى أَنْ يَنْزِلَهُ وَحْدَهُ لَا يَنْزِلُهُ غَيْرُهُ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً أَوْ امْرَأَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُنْزِلَهَا مَعَهُ وَلَيْسَ الشَّرْطُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَكُلَّمَا كَانَ السُّكَّانُ فِي الدَّارِ أَكْثَرَ كَانَ ذَلِكَ أَعَمْرَ لَهَا.
وَإِنْ حَفَرَ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الدَّارِ بِئْرًا لِلْمَاءِ أَوْ الْوُضُوءِ فَعَطِبَ فِيهَا إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ فَإِنْ حَفَرَ بِإِذْنِ رَبِّ الدَّارِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَفَرَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَبِّبَ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي السَّبَبِ وَهُوَ فِي الْحَفْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مُتَعَدٍّ، فَأَمَّا فِي الْحَفْرِ بِإِذْنِهِ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا وَلَكِنْ يُجْعَلُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ رَبِّ الدَّارِ.
وَإِنْ تَكَارَى دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرَهَا وَيُعْطِيَ أَجْرَ حَارِسِهَا وَنُوَّابِهَا فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَا يَعْمُرُ بِهِ الدَّارَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَالثَّانِيَةُ كَذَلِكَ عَلَيْهِ فَهِيَ الْجِبَايَةُ بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ فَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَقَدْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مَجْهُولًا مَعَ الْعَشَرَةِ وَضَمُّ الْمَجْهُولِ إلَى الْمَعْلُومِ يَجْعَلُ الْكُلَّ مَجْهُولًا، فَأَمَّا أَجْرُ الْحَارِسِ فَهُوَ عَلَى السَّاكِنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ وَإِذَا سَكَنَ الدَّارَ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَرَبُّ الدَّارِ مَا رَضِيَ بِالْمُسَمَّى حِينَ ضَمَّ إلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ لِنَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا لَزِمَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَالْإِشْهَادُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ فِي الْحَائِطِ الْوَاهِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ؛ فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَفْرِيغِ مَا اشْتَغَلَ مِنْ الْهَوَاءِ بِالْحَائِطِ الْمَائِلِ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ التَّفْرِيغِ بِالْهَدْمِ فَلَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ الْمُطَالَبَةُ.
رَجُلٌ تَكَارَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ وَفِي الدَّارِ سُكَّانٌ غَيْرُهُ فَأَدْخَلَ دَابَّةً فِي الدَّارِ وَأَوْقَفَهَا عَلَى بَابِهِ فَضَرَبَتْ إنْسَانًا فَمَاتَ، أَوْ هَدَمَتْ حَائِطًا، أَوْ دَخَلَ ضَيْفٌ لَهُ عَلَى دَابَّةٍ فَوَطِئَ إنْسَانًا مِنْ السُّكَّانِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّاكِنِ وَلَا عَلَى الضَّيْفِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إدْخَالِ الدَّابَّةِ وَإِيقَافِهَا فِي الدَّارِ، فَإِنَّ لِلسَّاكِنِ أَنْ يَرْبِطَ دَابَّتَهُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ عَلَى الدَّابَّةِ حِينَ أَوْطَأَتْ إنْسَانًا فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِلْإِتْلَافِ، وَإِنْ تَكَارَاهَا سَنَةً وَقَبَضَهَا لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَرْبِطَ فِيهَا دَابَّتَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَى السَّاكِنِ؛ لِأَنَّ السَّاكِنَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الِانْتِفَاعِ كَالْمَالِكِ، وَالْمَالِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ وَلَوْ تَكَارَى دَارًا يَسْكُنُهَا شَهْرًا بِخِدْمَةِ عَبْدٍ شَهْرًا فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِعَيْنِهِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَخْدُمَ وَسَكَنَ الدَّارَ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْعَبْدِ فَاتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مِنْ الْخِدْمَةِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي حَقِّ السُّكْنَى وَبَقِيَتْ السُّكْنَى مُسْتَوْفَاةً بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَكَانَ عَلَى الْمُسْتَوْفِي أَجْرُ الْمِثْلِ.
رَجُلٌ تَكَارَى دَارًا سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا وَلَا يَنْزِلَ فِيهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَفَى مُوجِبَ الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ فَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا وَلَا يُنْقِصُ مِمَّا سَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ الْتَزَمَ الْمُسَمَّى بِدُونِ أَنْ يَسْكُنَهَا فَالْتِزَامُهُ لَهَا إذَا سَكَنَ أَظْهَرُ، وَرَبُّ الدَّارِ إنَّمَا رَضِيَ بِالْمُسَمَّى إذَا لَمْ يَسْكُنْهَا فَعِنْدَ السُّكْنَى لَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهَا؛ فَلِهَذَا أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ فَإِنْ تَكَارَاهَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا فَلَمْ يَسْكُنْهَا وَلَكِنَّهُ جَعَلَ فِيهَا حَيَوَانًا وَقَالَ رَبُّ الدَّارِ رُدَّهَا عَلَيَّ.
(قَالَ:) هَذَا يُخَرِّبُهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَ مِنْ السُّكْنَى.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ سَكَنَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا مِنْ الْحُبُوبِ مَعَ نَفْسِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَهَذَا مِمَّا صَارَ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَا يَمْنَعُهُ رَبُّ الدَّارِ مِنْهُ وَلَا يَفْسَخُ الْعَقْدَ لِأَجْلِهِ، وَإِذَا أَنْزَلَ الْمُسْتَأْجِرُ زَوْجَ ابْنَتِهِ مَعَهُ فِي الدَّارِ فَلَمَّا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ طَالَبَهُ بِالْأَجْرِ فَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّوْجَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الدَّارِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ أَسْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ أَجْرًا وَلَوْ أَسْكَنَهُ مِلْكَهُ لَمْ يُطَالِبْهُ بِالْأَجْرِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَسْكَنَهُ دَارًا يَكْتَرِيهَا فَإِنْ تَكَارَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ فِيهَا سُكَّانٌ فَأَمَرَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنْ يَكْنُسَ الْبِئْرَ الَّتِي فِي الدَّارِ فَفَعَلَ وَطَرَحَ تُرَابَهَا فِي الدَّارِ فَعَطِبَ بِذَلِكَ إنْسَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ رَبِّ الدَّارِ كَفِعْلِ رَبِّ الدَّارِ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى فَإِنَّ السَّاكِنَ مُرْتَفِقٌ بِالْبِئْرِ وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِالْكَنْسِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِيمَا صَنَعَ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ، إلَّا أَنْ يَخْرُجَ التُّرَابُ إلَى الطَّرِيقِ فَحِينَئِذٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِي إلْقَاءِ التُّرَابِ فِي الطَّرِيقِ فَكَانَ ضَامِنًا.
رَجُلٌ تَكَارَى دَارًا سَنَةً عَلَى أَنَّهُ فِيهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَفِي أَحَدِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ جَوَازَ الْإِجَارَةِ بِطَرِيقِ أَنَّ الْمَنَافِعَ جُعِلَتْ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا اتَّصَلَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ بِالْعَقْدِ وَبِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ سَقَطَ الْخِيَارُ، وَإِنْ جَعَلَ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَشَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مَشْرُوطٌ لِلْفَسْخِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُتْلَفَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الْفَسْخِ، ثُمَّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْإِجَارَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ فَلَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهَا؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ فَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَالْبَيْعِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَالَ وَقَدْ يَقَعُ نَفْيُهُ قَبْلَ أَنْ يُرَوِّيَ الْمَرْءُ النَّظَرَ فِيهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى شَرْطِ الْخِيَارِ فِيهِ؛ لِيَدْفَعَ الْغَبْنَ عَنْ نَفْسِهِ وَالْإِجَارَةُ فِي هَذَا كَالْبَيْعِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يُجْعَلُ كَالْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ كَالْبَيْعِ وَيَعْتَمِدُ لُزُومُهُ تَمَامَ الرِّضَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ، ثُمَّ إنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَالْمَنْفَعَةُ لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ إلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ وَمَا يُتْلَفُ قَبْلَ ذَلِكَ يُتْلَفُ عَلَى ضَمَانِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْفَسْخِ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالِاسْتِيفَاءِ سَقَطَ خِيَارُهُ عِنْدَنَا وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ يَتِمُّ رِضَاهُ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ عِنْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَإِنْ سَكَنَهَا فِي الْمُدَّةِ فَقَدْ تَمَّ رِضَاهُ بِاشْتِغَالِهِ بِالتَّصَرُّفِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنْ كَانَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ رَضِيَهَا أَخَذَهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَإِنْ لَمْ يَرْضَهَا أَخَذَهَا بِخَمْسِينَ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا انْهَدَمَ مِنْهَا اعْتِبَارًا لِلْعَقْدِ الْفَاسِدِ بِالْجَائِزِ وَإِذَا أَجَّرَ الْوَصِيُّ دَارَ الْيَتِيمِ مُدَّةً طَوِيلَةً جَازَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ لَوْ كَانَ بَالِغًا فِي كُلِّ عَقْدٍ نَظَرًا لَهُ إلَّا أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهَا مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا لِلْإِجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقُرْبَانِ مَالِهِ بِالْأَحْسَنِ وَبِمَا يَكُونُ أَصْلَحَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} وَيَجُوزُ لِوَكِيلِ الْكَبِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَهَا بِمَا قَلَّ وَكَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ.
رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهِيَ فِي مَنْزِلٍ بِكِرَاءٍ فَمَكَثَ مَعَهَا سَنَةً فِيهِ، ثُمَّ طَلَبَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ الْكِرَاءَ، وَقَدْ أَخْبَرَتْ الْمَرْأَةُ الزَّوْجَ أَنَّ الْمَنْزِلَ مَعَهَا بِكِرَاءٍ أَوْ لَمْ تُخْبِرْهُ فَالْإِجَارَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بَاشَرَتْ سَبَبَ وُجُوبِ الْأَجْرِ وَهُوَ الْعَقْدُ فَإِنْ كَانَ قَالَ لَهَا لَكِ عَلَيَّ مَعَ نَفَقَتِكَ أَجْرُ الْمَنْزِلِ كَذَا، وَكَذَا وَضَمِنَهُ لِرَبِّ الْمَنْزِلِ فَهُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ دَيْنًا وَاجِبًا لِرَبِّ الْمَنْزِلِ، وَإِنْ أَشْهَدَ لَهَا بِهِ وَلَمْ يَضْمَنْهُ لِرَبِّ الْمَنْزِلِ، ثُمَّ لَمْ يُعْطِهَا فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَيْهَا لَا لَهَا فَلَا يَكُونُ هُوَ ضَامِنًا لَهَا ذَلِكَ بَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ مِنْهُ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَى، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُعْطِ.
، وَإِذَا تَكَارَى دَارًا لَمْ يَرَهَا فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ كَالْبَيْعِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا فَكَمَا لَا يَتِمُّ الرِّضَا فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ، وَرُؤْيَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَأَتَّى وَلَكِنْ يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِرُؤْيَةِ الدَّارِ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ السُّكْنَى تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ فِي الضِّيقِ وَالسَّعَةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ انْهَدَمَ مِنْهَا شَيْءٌ يَضُرُّ بِالسُّكْنَى فَحِينَئِذٍ يَتَخَيَّرُ لِلتَّغَيُّرِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً كُلَّ شَهْرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ قَبْلَ كَمَالِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ بِاتِّحَادِ الْعَاقِدَيْنِ فَبِالتَّفْصِيلِ فِي ذِكْرِ الْبَدَلِ لَا تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ لَا يَفْسَخُهُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِعُذْرٍ، وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ اسْتَأْجَرْتُهَا شَهْرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْإِجَارَةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْعَقْدِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ الزِّيَادَةَ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ فَسَكَنَهَا شَهْرَيْنِ فَعَلَيْهِ كِرَاءُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي السُّكْنَى، وَالْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْعَارِيَّةِ فَإِنْ انْهَدَمَتْ مِنْ سُكْنَاهُ فَقَالَ: إنَّمَا انْهَدَمَتْ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِإِنْكَارِهِ وُجُوبَ الضَّمَانِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ زَادَ عَلَى الشَّهْرِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِيمَا زَادَ فَيَسْتَوِي فِيهِ قَلِيلُ الْمُدَّةِ وَكَثِيرُهَا.
وَإِذَا أَجَّرَ الْبَيْتَ مِنْ رَجُلٍ وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْمِفْتَاحَ فَلَمَّا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى فَتْحِهِ وَلَمْ أَسْكُنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا، أَمَّا جَعْلُ الْقَوْلِ قَوْلَهُ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ فَالْمِفْتَاحُ مَا اُتُّخِذَ إلَّا لِفَتْحِ الْبَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمِفْتَاحُ يَتَمَكَّنُ مِنْ فَتْحِ الْبَابِ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يُعِينُهُ وَأَمَّا تَرْجِيحُ بَيِّنَتِهِ؛ فَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْأَجْرَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِإِثْبَاتِهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالْمُسْتَأْجِرُ يَنْفِي ذَلِكَ.
وَإِذَا تَكَارَى دَارًا شَهْرًا فَأَقَامَ مَعَهُ صَاحِبُ الدَّارِ فِيهَا إلَى آخِرِ الشَّهْرِ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَا أُعْطِيكَ الْأَجْرَ لِأَنَّكَ لَمْ تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الدَّارِ (قَالَ:) عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِي يَدِهِ فَلْيَلْزَمْهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِهِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ.
رَجُلَانِ اسْتَأْجَرَا حَانُوتًا يَعْمَلَانِ فِيهِ بِأَنْفُسِهِمَا فَعَمَدَ أَحَدُهُمَا فَاسْتَأْجَرَ خَفِيرًا فَأَقْعَدَهُ فِي الْحَانُوتِ وَأَبَى الْآخَرُ أَنْ يَدَعَهُ.
(قَالَ:) لَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِي نَصِيبِهِ مَنْ شَاءَ مَا لَمْ يُدْخِلْ عَلَى شَرِيكِهِ فِي نِصْفِهِ ضَرَرًا بَيِّنًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكُ مَنْفَعَةِ النِّصْفِ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَمْلِكُهُ كَيْفَ شَاءَ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدْخَلَ ضَرَرًا عَلَى شَرِيكِهِ فَحِينَئِذٍ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُتَعَدٍّ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مَتَاعًا مِنْ الْآخَرِ، وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبْنِيَ وَسَطَ الْحَانُوتِ حَائِطًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْبِنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَيْنِ فَإِنَّ مَا يَمْلِكُ مَالِكُ الرَّقَبَةِ وَهُمَا يَمْلِكَانِ الْمَنْفَعَةَ دُونَ الرَّقَبَةِ، فَإِنْ تَكَارَى بَيْتًا وَدُكَّانًا عَلَى بَابِهِ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ وَالدُّكَّانُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَفَّقَ بِالدُّكَّانِ فَالْكِرَاءُ جَائِزٌ فِي الدَّارِ وَيَرْفَعُ عَنْهُ بِحِسَابِ الدُّكَّانِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ فِيهِمَا إلَى مَحِلِّهِ وَهُوَ عَيْنٌ مُنْتَفِعٌ بِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ إنْسَانٌ حَتَّى اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُمَا سَنَةً كَانَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا فَأُحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّرَفُّقِ بِالدُّكَّانِ فَيُرْفَعُ عَنْهُ بِحِسَابِهِ مِنْ الْأَجْرِ كَمَا كَانَا بَيْتَيْنِ فَغَصَبَ أَحَدَهُمَا غَاصِبٌ.
رَجُلَانِ اسْتَأْجَرَا مَنْزِلًا وَاشْتَرَطَا فِيمَا بَيْنَهُمَا أَنْ يَنْزِلَ أَحَدُهُمَا فِي أَقْصَاهُ وَالْآخَرُ فِي مُقَدِّمِهِ وَلَمْ يَشْتَرِطَا ذَلِكَ فِي أَصْلِ الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ جَائِرَةٌ وَلِصَاحِبِ الْأَقْصَى أَنْ يَنْزِلَ فِي مُقَدِّمِهِ مَعَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْمُوَاضَعَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بَعْدَمَا مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِالْإِجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُهَايَأَةِ وَالْمُهَايَأَةُ لَا تَكُونُ وَاجِبَةً فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحَقَّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمُقَدَّمِ مِنْ الْآخَرِ وَإِذَا تَكَارَى دَارًا لِيَنْزِلَهَا بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فَلَمْ يَنْزِلْهَا وَلَكِنْ أَنْزَلَ فِيهَا دَوَابَّ وَبَقَرًا فَانْهَدَمَتْ مِنْ عَمَلِهِمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِخِلَافٍ مِنْهُ فَإِنَّ مَا فَعَلَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ مَنْزِلًا تَدْخُلُ الدَّوَابُّ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ عَادَةً، فَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ غَاصِبٌ ضَامِنٌ؛ لِمَا يَنْهَدِمُ بِعَمَلِهِ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُكَارِيَيْنِ انْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَنْتَقِضُ بِمَوْتِهِمَا وَلَا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ إذَا شَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ أَنَّهُ يَخِيطُ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ الْخَيَّاطُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنَافِعَ جُعِلَتْ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ، ثُمَّ الْعَقْدُ عَلَى الْعَيْنِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَكَذَلِكَ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جُعِلَ كَالْعَيْنِ فَقَدْ تَمَّ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْكُلِّ فَبِمَوْتِ الْأَجِيرِ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ يَخْلُفُهُ فِيمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ وَقَاسَ بِالْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ إذَا زَرْعَهَا الْمُسْتَأْجِرُ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْتَقِضُ بِالْإِنْفَاقِ بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي تَرْبِيَةِ الزَّرْعِ فِيهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ إلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ هَذَا الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ فَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَبِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ لِتَضَمُّنِهِ فَوَاتَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِ الْخَيَّاطِ إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِيَدِهِ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ بِمَوْتِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ وَلَنَا طَرِيقَانِ.
(أَحَدُهُمَا) فِي مَوْتِ الْأَجِيرِ فَنَقُولُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ الْمَنَافِعُ الَّتِي تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْأَجِيرِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ رَقَبَةَ الدَّارِ تَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ وَالْمَنْفَعَةَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الدَّارَ بِرِضَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِيهَا إلَى غَيْرِهِ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ فِيمَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ مُضِيفٌ لِلْعَقْدِ إلَى الْغَيْرِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إلْزَامِ الْعَقْدِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَتَجَدَّدُ فِي مِلْكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ.
(قِيلَ) فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلَ الْإِجَارَةُ فِيهَا مِنْ الْمُوَرِّثِ.
(قُلْنَا) إنَّمَا لَا تَعْمَلُ إجَارَتُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى حَقِّهِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَمَا كَانَ يَعْلَمُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ مُضَافٌ إلَى مَحَلِّ حَقِّهِ وَهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ فِي حُكْمِ مِلْكِ الْعَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ بِمِلْكِ رَقَبَةِ الْأَمَةِ حَقٌّ فِيمَا هُوَ حَقُّ الزَّوْجِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ فِي مَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ بَعْدَ مَوْتِهِ إنَّمَا يَبْقَى عَلَى أَنْ يَخْلُفَهُ الْوَارِثُ وَالْمَنْفَعَةُ الْمُجَرَّدَةُ لَا تُوَرَّثُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا مَاتَ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ وَفِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمِلْكِ بِبَدَلٍ وَبِغَيْرِ بَدَلٍ كَالْعَيْنِ؛ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تُوَرَّثُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ لَوْ أَوْصَى بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ فَرَدَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ الْخِدْمَةُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ دُونَ وَرَثَةِ الْمُوصِي لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تُوَرَّثُ وَهَذَا لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يَبْقَى لِيَكُونَ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي وَالْمَنْفَعَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تَبْقَى وَاَلَّتِي لَا تَحْدُثُ لَا تَبْقَى لِتُوَرَّثَ وَاَلَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لَهُ لِيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهَا فَالْمِلْكُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ، وَإِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْإِرْثِ تَعَيَّنَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ فِيهِ كَعَقْدِ النِّكَاحِ يَرْتَفِعُ بِمَوْتِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ وَفَصَّلَ الْأَرْضَ الْمَزْرُوعَةَ، وَالسَّفِينَةُ إذَا كَانَتْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ فَمَاتَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ فِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فِيهِمَا وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَبْطُلُ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَاجَةِ لَا تُعْتَبَرُ لِإِثْبَاتِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَوْ مَضَتْ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ بِعَقْدٍ بَيْنَهُمَا عُقِدَتْ الْإِجَارَةُ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلَأَنْ يَجُوزَ إبْقَاءُ الْعَقْدِ لِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ أَوْلَى وَالْمُسْتَحْسَنُ مِنْ الْقِيَاسِ لَا يُورِدُ نَقْضًا عَلَى الْقِيَاسِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ رَجُلَانِ أَجَّرَا دَارًا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَالْعَقْدُ يُنْتَقَضُ فِي حِصَّتِهِ فَإِنْ رَضِيَ الْوَارِثُ وَهُوَ كَبِيرٌ أَنْ تَكُونَ حِصَّتُهُ عَلَى الْإِجَارَةِ وَرَضِيَ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ بَيْنَهُمَا فِي حِصَّتِهِ بِالتَّرَاضِي، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ مُشَاعًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَاجِرُ مِنْ شَرِيكِهِ فَفِي نَصِيبِ الْحَيِّ مِنْهُمَا الْعَقْدُ بَاقٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ لَا يَرْفَعُ الْإِجَارَةَ إلَّا زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ وَالْمُقَارِنِ فَقَالَ بِمَوْتِ: أَحَدِهِمَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فِيهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجَرِينَ فَبُطْلَانُ الْعَقْدِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْخِلَافِ وَقَدْ بَيَّنَّا رِوَايَةً فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَقَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَإِنْ تَكَارَى دَارًا سَنَةً عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الْأَجْرَ فَسَكَنَ الدَّارَ شَهْرًا فَقَالَ رَبُّ الْمَنْزِلِ عَجِّلْ لِي الْأَجْرَ كَمَا شَرَطْت عَلَيْكَ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ قَبْلَ السَّنَةِ.
(قَالَ:) يَأْخُذُهُ بِالْأَجْرِ حَتَّى يُعَجِّلَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَّى تَمْضِيَ السَّنَةُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ كَالْبَيْعِ وَالْمُشْتَرِي إذَا امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ فَالْبَائِعُ يُطَالِبُهُ بِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَجْلِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ بَعْدَ شَرْطِ التَّعْجِيلِ يُطَالِبُهُ بِالْأُجْرَةِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ الْإِجَارَةِ لِأَجْلِهِ، وَإِذَا بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِي الدَّارِ تَنُّورًا يَخْبِزُ فِيهِ بِإِذْنِ رَبِّ الدَّارِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَاحْتَرَقَ بَيْتُ بَعْضِ الْجِيرَانِ مِنْ تَنُّورِهِ أَوْ بَعْضُ بُيُوتِ الدَّارِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ فَإِنْ اتِّخَاذَ التَّنُّورِ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى وَلِلسَّاكِنِ أَنْ يَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّ الدَّارِ فَفِعْلُهُ فِي ذَلِكَ كَفِعْلِ رَبِّ الدَّارِ.
فَإِنْ تَكَارَى مَنْزِلًا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ فَسَكَنَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَهُ وَلَمْ يُخْبِرْ رَبَّ الْمَنْزِلِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ فَإِنْ خَرَجَ بِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَجْرٌ بِحِسَابِ مَا سَكَنَ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الشَّهْرِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ بِخُرُوجِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ فَبَقِيَ تَمَكُّنُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْدِ، وَإِنْ خَرَجَ بِعُذْرٍ فَقَدْ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ إلَّا لِمَا مَضَى وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ عِنْدَ الْعُذْرِ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى امْتِنَاعٌ مِنْ الْتِزَامٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ فِي حُكْمِ الْمُتَجَدِّدِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَلَيْهِ الْأَجْرُ إذَا خَرَجَ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالْفَسْخِ إلَّا أَنْ يُسَاعِدَهُ رَبُّ الدَّارِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَسْكُنَ الدَّارَ بِنَفْسِهِ.
رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يُؤَاجِرَ مَنْزِلَهُ فَأَجَّرَهُ مِنْ ابْنِ الْمُوَكِّلِ، أَوْ أَبِيهِ، أَوْ عَبْدِهِ، أَوْ مُكَاتَبِهِ فَلَمَّا مَضَتْ الْإِجَارَةُ وَطَالَبَهُمْ الْوَكِيلُ بِالْأَجْرِ أَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ فَالْأَجْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ إلَّا عِنْدَ الْمُوَكِّلِ؛ فَإِنَّهُ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَكِيلِ مَعَ هَؤُلَاءِ كَعَقْدِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ لَوْ عَقَدَ مَعَهُمْ بِنَفْسِهِ إلَّا فِي عَبْدِهِ خَاصَّةً فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا، فَكَذَلِكَ إذَا عَقَدَ وَكِيلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُسْتَأْجِرُ وَرَبُّ الدَّارِ عَبْدَهُ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لِأَنَّ كَسْبَهُ لِمَوْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَى الْمَوْلَى الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ الْآنَ لِغُرَمَائِهِ، وَحَقُّهُمْ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَالْمَوْلَى فِيهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ مَا لَمْ يَسْقُطُ الدَّيْنُ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ ابْنَ الْوَكِيلِ أَوْ أَبَاهُ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِجَارَةُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ وَالْوَكِيلُ يُطَالَبُ بِالْأَجْرِ وَهَذَا نَظِيرُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ يَبِيعُ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ، وَإِنْ أَجَّرَهُ الْوَكِيلُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ إجَارَةً فَاسِدَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَضْمَنُ بِالْخِلَافِ لَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ فَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ كَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْرِفُ الْأَسْبَابَ الْمُفْسِدَةَ لِلْعَقْدِ وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِيمَا بَاشَرَهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَكَأَنَّ الْمُوَكِّلَ بَاشَرَ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ بِنَفْسِهِ وَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِي؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ.
رَجُلٌ دَفَعَ دَارِهِ إلَى رَجُلٍ يَسْكُنُهَا وَيَرُمُّهَا وَلَا أَجْرَ لَهَا فَأَجَّرَهَا مِنْ رَجُلٍ فَانْهَدَمَتْ الدَّارُ مِنْ سُكْنَى الْآجِرِ (قَالَ:) يُضَمِّنُ رَبُّ الدَّارِ الْمُسْتَأْجِرَ وَيَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي آجَرَهُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَعَارَهَا مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ فَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ غَاصِبًا لَهَا ضَامِنًا؛ لِمَا انْهَدَمَتْ مِنْ سُكْنَاهُ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي آجَرَهُ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ بِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ الضَّمَانِ وَلَا يَكُونُ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُؤَاجِرَ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِنَاءً عَلَى غَصْبِ الْعَقَارِ.
رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يُؤَاجِرَ مَنْزِلًا لَهُ فَوَهَبَهُ الْوَكِيلُ لِرَجُلٍ أَوْ أَعَارَهُ إيَّاهُ فَسَكَنَهُ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى السَّاكِنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَاصِبٌ فَالْوَكِيلُ فِي الْهِبَةِ وَالْإِعَارَةِ مُخَالِفٌ وَلَكِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَتَقَوَّمُ عَلَى الْغَاصِبِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ.
رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ مَنْزِلًا وَالْمَنْزِلُ مُقْفَلٌ فَقَالَ لَهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ خُذْ الْمِفْتَاحَ وَافْتَحْهُ وَاسْكُنْهُ فَفَتَحَ الرَّجُلُ الْمَنْزِلَ وَأَعْطَى أَجْرَ الْحَدَّادِ لِفَتْحِ الْقُفْلِ نِصْفَ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَعْطَى الْحَدَّادَ عَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَأْمُورًا مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَنْزِلِ، وَإِنْ انْكَسَرَ الْقُفْلُ مِنْ مُعَالَجَةِ الْحَدَّادِ فَالْحَدَّادُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فَيَكُونُ ضَامِنًا؛ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ وَلَا يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ الْقُفْلَ إذَا عَالَجَهُ بِمَا يُعَالَجُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْقُفْلِ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي فَتْحِهِ وَلَيْسَ لَهُ عِوَضٌ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ فِي فَتْحٍ الْقُفْلِ، وَكَذَلِكَ إنْ عَالَجَهُ الْحَدَّادُ عِلَاجًا خَفِيفًا فَانْكَسَرَ يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الِانْكِسَارَ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا يُضَمَّنُ بِمَا يُتْلَفُ لَا بِعَمَلِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.